آخر الأخبار والأحداث

GOLF TOURNAMENT

مؤتمر الشباب الملكي الكندي

 
 
 

سيادة المطران ميلاد الجاويش


أن نحتفل بالذكرى المئويّة الثالثة على إعادة الشركة الكنسيّة بين الكنيسة الروميّة الملكيّة الأنطاكيّة وكنيسة روما هو أبعد من أن يكون يوبيل فرح، خصوصًا أنّ الانقسام الذي حصل في القرن الثامن عشر، في قلب الكنيسة الروميّة الملكيّة الأمّ، بين الروم الكاثوليك والروم الأرثوذوكس قائمٌ دائمًا. هذه المناسبة أراها بالأحرى وقفة ضمير وإعادة قراءة لحضورنا الكنسيّ، لأفراحنا وآلامنا، لأمجادنا وخطايانا. لن نحتفل باليوبيل كاملًا إلّا عندما نحقّق إرادة الربّ، الأعزّ على قلبه، ألا وهي أن يكون أبناؤه كلّهم واحدًا في المحبّة وفي الشهادة للإنجيل.

هذه الذكرى ليست أيضًا احتفالًا بعيد مولد كنيستنا. فنحن لم نولد سنة 1724، لأنّ كنيستنا هي كنيسة رسوليّة، آبائيّة، مجمعيّة، تتوارث إرثًا عظيمًا تَكوّن مع الرسل الأوائل وتَنَاقله خلفاؤهم وقدّيسو أنطاكيا العظماء.

أنطاكيا هي الأرض التي فيها وُلدَت كنيسة يسوع، هي حقل بشارة الرسل الأوّل، هي بطريركيّة الأجداد العظيمة التي امتدّت من جنوب آسيا الصغرى إلى فلسطين مرورًا بسوريا ولبنان والأردنّ وسائر المشرق. من هذه الأرض المباركة نحن أتينا وخرجنا. أنطاكيا هي الكنيسة الأولى، النَضِرة دائمًا، الشابّةُ دائمًا، التي تتعالى فوق الانقسامات. هي الكنيسة التي، بفضل موقعها الجغرافيّ المتوسّط عند مفترق الحضارات القديمة، عرفت أن تجمع تيّارات لاهوتيّة وفكريّة مختلفة: فمنها انطلق بولس في إرساليّاته نحو الأمم، وفيها أيضًا وَجدَ بطرس المحافظ ملجأً ومَوئلًا.

الكنيسة الأنطاكيّة الأولى كانت فوق الانقسامات ويجب أن تبقى فوقها. برأيي، هي ليست أرثوذوكسيّة، ولا كاثوليكيّة، ولا سريانيّة، ولا عربيّة... هي بالأحرى هذه كلّها: أرثوذكسيّة وكاثوليكيّة في آنٍ معًا، يونانيّة وسريانيّة، عربيّة وبيزنطيّة. أنطاكيا هي فوق انقسامات البشر. وإذا كان أن حصلت معظم الانقسامات الكنسيّة عبر التاريخ ضمن رقعتها، فانطلاقًا منها ستجد الكنيسة الجمعاء يومًا ما وحدتها. فيها يجب على تبّاع المسيح "أن يُدعَوا أوّلًا مسيحيّين"، وليس أيّ شيء آخر، كما يشهد على ذلك كتاب أعمال الرسل (أع 11: 26).

لقد قالها يومًا القدّيس باسيليوس الكبير بطريقته الفصيحة: "هل يوجد في العالم أعظم من كنيسة أنطاكيا؟ إذا عادت إلى الوئام فكلّ الجسم يتّخذ صحّته من الرأس السليم" (الرسائل 66، 2). من إنطاكيا بالذات يخرج "نور الشرق"، إذا أردنا أن نستعير من البابا يوحنّا بولس الثاني تعبيره الرائع، أي ذلك الطريق الذي يقود إلى الوحدة المسيحيّة الشاملة.

أنا راهب وكاهن وأسقف مخلّصيّ، خرجتُ من الرهبانيّة الباسيليّة المخلّصيّة التي من رحمها وُلدَت كنيسة الروم الملكيّين الكاثوليك في القرن الثامن عشر. مؤسّس الرهبانيّة المخلّصيّة المطران أفتيميوس الصيفي كان رائد الإيمان الكاثوليكيّ في بطريركيّة أنطاكيا الروميّة وأشرس المدافعين عن الوحدة مع روما، الأمر الذي لم يوفّر عليه الاضطهادات في ذلك الزمان. انتمائي الرهبانيّ هذا لا يمنعني من أن أعتقد أنّ انقسام سنة 1724 جاء نتيجة مسيرة تاريخيّة معقّدة تتّسم، عند كِلا الطرفَين الكاثوليكيّ والأرثوذكسيّ على السواء، بكثير من عدم الفهم وسوء الفهم والتحجّر والجهل والعشوائيّة والمنافسة والطموح غير المحدود والقوميّة العمياء... أنطاكيا، التي أصاب جسمُها الهُزال بسبب الفتح العربيّ والمناحرات الداخليّة، وقعت ضحيّة صراع بين أكبر كنيستَين شقيقتَين، حاول كلّ منهما أن يجرّها إلى معسكره: الكنيسة الغربيّة في روما والكنيسة الشرقيّة في القسطنطينيّة.

لنَقلِ الأمر بطريقةٍ أخرى أكثر إيجابية. كان في كنيسة أنطاكيا، في القرن الثامن عشر، تيّاران اثنان لكلّ منهما وجهة نظر لا تخلو من الصحّة: تيّار كاثوليكيّ يحلم بإعادة الشركة بين كنيسة أنطاكيا وكنيسة روما وتوحيد كنيسة الله تحت سقف خليفة بطرس، كما كان الأمر عليه في القرن الميلاديّ الأوّل؛ وتيّار أرثوذكسيّ تمسّك بأرثوذوكسيّته نتيجة مخاوفه من محاولات الليتنة القديمة. إذا كان لكلّ من هذين التيّارين انطلاقة إيجابيّة، فالوسائل التي استعملها كلّ فريق لتحقيق بغيته لم تكن كلّها على حسب قلب الربّ.

أنطاكيا، "مدينة الله"، تستحقّ منّا حاليًا طريقة جديدة في رؤية الأمور، مقاربةً جديدة في قراءة التاريخ وفي العمل من أجل الوحدة المنشودة. ليس الأمر على طريقة "نحن وأنتم"، بل "نحن ونحن"؛ ولا أن نحبسَ الآخر ضمن إطارات جامدة وتسميات عفا عنها الزمن، مثل "نحن مستقيمو الرأي وأنتم الهراطقة"، في حين أنّنا "جميعَنا انقساميّون" كما قال يومًا المطران إلياس الزغبي. أنطاكيا تستحقّ منّا جرأة في أن نبحث عن طرق جديدة تقود إلى الوحدة.

أن تكون كاثوليكيًّا هو قبل كلّ شيء أن تكون مسيحيًّا عالميًّا، عضوًا في كنيسة الله التي تنتشر في أربع أقاصي الأرض؛ هو أن تعيش التنوّع في قلب الوحدة؛ هو أن تستفيد من الغنى اللّامتناهي من تيّارات الكنيسة الفلسفيّة واللّاهوتيّة المتنوّعة؛ هو أن تبقى منفتحًا على التغيير، على استنباط طرق جديدة تطبّق فيها كلمة الله في عالم اليوم؛ هو خصوصًا أن ترفض أن تنغلق ضمن تَعالٍ غشيم أو تطرّف أعمى. أن تكون كاثوليكيًّا هو أن تعرف كيف تستوعب الجميع في قلب الله.

وأن تكون أرثوذكسيًّا هو قبل كلّ شيء أن تمتلك استقامة قلب وتستقرّ في المسيح. هو فخامة في المحبّة، وليس فخامة في أداء الصلاة والترنيم فحسب. الأرثوذوكسيّة هي أوّلًا، كما يقول المطران جورج خضر الأرثودوكسيّ الذي لا غشّ فيه، "انغماس في المسيح" أكثر ممّا هو انغماس في الطقوس. الطقوس إنّما هي طريق نحو المسيح، وإن لم تكن كذلك فستصبح طريقًا إلى تفخيم الذات.

أنطاكيا "مدينةٌ في السماء"، يا له من تعبير رائع للقدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم، ابن أنطاكيا! ما يقصده قدّيسُنا هنا ليس السماء العليا التي فوقنا، بل السماء التي تُعاش هنا على الأرض: مدينة تُعاش فيها محبّة الربّ بنسختها الأصليّة، الصافية، البسيطة، الإنجيليّة.

أنطاكيا ليست أرضًا فحسب، ولا تاريخًا ولا بطريركيّة فقط. هي قبل كلّ شيء قيمةٌ علينا أن ننقلها إلى أبنائنا، خصوصًا هنا في المهجر: قيمة أن تكون أوّلًا مسيحيًّا، مسيحيًّا فحسب من دون أيّ إضافة أخرى، أن تكون رسوليًا في إيمانك، عالميًّا في روحك، أصيلًا في تجذّرك في المسيح، مجنونًا في محبّة الربّ وفي محبّة أمّه مريم العذراء والدة الله. آمين.